الخميس 16 يونيو - 14:24
كلمة معالي الشيخ د / صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله ورعاه - إمام وخطيب المسجد الحرام ، وعضو مجلس الشورى
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده : فإن الأجيال في كل
عصر بعامة ؛ وفي هذا العصر بخاصة بحاجة ماسة إلى التعرف على الشخصيات
البارزة في مجتمعهم ، المعاشة في واقعهم ، الشخصيات التي يقوم عليها - بإذن
الله - البناء ، ويرتسم بسيرتها المنهج .
يحتاج النشء إلى التعرف عن قرب على هؤلاء الرجال الذين يحملون المسئولية
بقوة واقتدار ، وكفاءة واصطبار ، يحملون على عواتقهم أمانة الحفاظ على دين
الله ، وتربية عباد الله في جمع عجيب بين الحب لهم والغيرة عليهم منطلقهم
في ذلك الدين بكل شموله الإيماني والفكري الاجتماعي والاقتصادي والثقافي
والسياسي ، دين الدنيا والآخرة جميعا ، الإيمان والعمل الصالح معا ؛ إنهم
علماء المساجد والمنابر ، وشيوخ الميادين والعامة .
وصاحب السماحة الإمام العالم العلامة الحبر والبحر والدنا وشيخنا الشيخ عبد
العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله وأمد في عمره على طاعته أنموذج من
هؤلاء ، علم يتسنم الذروة في الرجال ، ويعلو القمة في الأفذاذ دينا وورعا
وعلما وفضلا وكرما وجودا ، ولا أزكي على الله أحدا ، وما شهدنا إلا بما
علمنا وعلم البواطن موكول إلى الله وحده فهو أعلم بمن اتقى ، وهو أعلم بمن
هو أهدى سبيلا .
لقد عاش الشيخ حياة علمية دعوية متوازنة يتوافق فيها الفكر مع العمل ،
ويقترن فيها العلم بالسلوك ، حياة تجلي في توازنها الفكر الثاقب ، والعطاء
النير ، والإسهام العميق ، والمدد الغزير في ميادين الحياة كافة ، امتداد
في العلم والدعوة والتربية والتوجيه ، شمل أصقاعا عريضة من العالم الفسيح
من خلال أثره الفكري المقروء والمسموع ومشاركاته الميدانية في المؤتمرات
والمجامع والحلقات والمنابر والمجالس واللجان ، رئاسة وأستاذية وعضوية ،
إنه رجل شاء الله أن يقع على كاهله ، أعباء جسام في الدعوة والإرشاد والبحث
العلمي والإفتاء ، وخدمة قضايا المسلمين كافة .
إن العطاء والتوازن والتثبت في حياة الشيخ وسيرته - علما وتعليما ودعوة -
جلي بارز من خلال الرصد للقنوات التي صبغت عطاء الشيخ وأطرت أثره في إطار
متميز ، ولعل ذلك يتبين من هذه القنوات الثلاث الكبرى :
الأولى : الإيمان العميق ، والعقيدة الراسخة في الله ورسوله وكتابه ودين
الإسلام ، وأثر ذلك في سيرته ومسيرته ، سلوكا حسنا ، وورعا وزهدا ، وصدقا
في اللهجة ، وحبا للناس ، وثقة متبادلة وعطفا ورقة ، وكرما وبذلا.
الثانية : التأصيل العلمي المبني على أصلي الدين : الكتاب والسنة فالشيخ
يحفظ القرآن كله ويتدبره ، ويحفظ الكثير من السنة ويفقهها ، فهو دائم
التلاوة للقرآن بتدبر ، قدير في الاستحضار للسنة بتفهم ، سريع الاستشهاد
بها ، ملتزم للاسترشاد بنورهما ، مع دعوته الظاهرة في كل مجلس وناد للأخذ
بهما والرجوع إليهما والحث على مداومة قراءتهما ومطالعتهما ، وحفظ المتيسر
منهما .
الثالثة : روح الاجتهاد والاستنباط المنبثقة من الفقه المتين والدارسة
الواعية والفهم العميق والفكر المستنير مع الإحاطة البينة بمقاصد الشريعة
وأصولها وقواعدها وضوابطها . ومن يسبر ذلك ويرصده في حياة هذا الإمام يدرك
وضوح الطريق عنده ، وانسجامه مع نفسه ، ومن حوله في توافق سوي وسيرة معتدلة
ونهج قويم . هذا هو الشيخ الذي يزكو شكره ، ويعلو عند أهل العصر ذكره ،
ويعني الأمة أمره .
الصنعية عنده واقعة موقعها ، والفضيلة إليه سالكة طريقها ، إن أوجز في
الموعظة كان شافيا ، وإن أطنب كان مذكرا ، وإن نبه إلى ملاحظة فهو المؤدب
المؤدب ، وإن أسهم في التوجيه فهو المفهم ، واضح البيان ، صادق الخبر ، بحر
العلوم ، نزهة المتوسمين ، خصيم الباطل ، نصير الحق ، سراج يستضيء به
السالكون ؛ لين العريكة ، أليف مألوف ، يرفق في أعين الناس صغر الدنيا في
عينه ، لا يتطلع إلى ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد ، متحكم في سلطان شهوته ،
لا تدعوه ريبة ولا يستخفه هوى خارج من سلطان الجهالة ، لا يقدم إلا على
غلبة ظن في منفعة ، لا يرى إلا متواضعا ، وإذا جد الجد فهو القوي الغيور ،
لا يشارك في مراء ، ولا يلوم إذا وجد للعذر سبيلا ، لم ير متبرما ، ولا
متسخطا ولا شاكيا ، ولا متشهيا ، لا يخص نفسه باهتمام دون إخوانه ، واسع
الشفاعة ، طويل يد العون .
هذه إلماحات من سيرته ، وإشارات إلى ظاهر حاله ، والله ربنا وربه ، وهو
حسبنا وحسبه . فعليك أيها النبيل بالأخذ بمجامع المحاسن إن أطقت ، إن عجزت ،
فأخذ القليل خير من ترك الجميع ؛ ولله الحجة على خلقه أجمعين .
حفظ الله شيخنا ، وألبسه لباس الصحة والعافية ، وأبقاه ذخرا للإسلام وأهله .