الخميس 5 مارس - 4:34
لسؤال:
هل يجوز للإنسان أن يفعل طاعة وعبادة لله ويقصد من ورائها الحصول على منفعة دنيوية ؟
الجواب :
الحمد لله
الأصل في المسلم أن يقصد بعبادته وطاعته مرضاة الله ، وأن تكون نيته متمحضةً لذلك .
ومن فعل الطاعة أو العبادة بقصد الحصول على ثمرة دنيوية ، فإن له في ذلك حالين:
الأولى : أن تكون الثمرة الدنيوية هي كل مبتغاه وقصده .
فيصوم لأجل الحمية والريجيم ، ويحج عن غيره طلباً للمال فقط ، ويخرج للجهاد لأجل الغنيمة ، ويتصدق بنية الشفاء أو الثناء ... الخ .
فهذا ليس له في الآخرة من نصيب .
قال تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
قال ابن جرير الطبري : " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا الْتِمَاسَ الدُّنْيَا صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ تَهَجُّدًا بِاللَّيْلِ لَا يَعْمَلُهُ إِلَّا لِالْتِمَاسِ الدُّنْيَا ؛ يَقُولُ اللَّهُ : أُوَفِّيهِ الَّذِي الْتَمَسَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَثَابَةِ ، وَحَبِطَ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ الْتِمَاسَ الدُّنْيَا ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " انتهى من "جامع البيان" (12/347) .
وقال أبو العباس القرطبي : " فأما إذا كان الباعثُ عليها غير ذلك من أعراض الدُّنيا ؛ فلا يكونُ عبادة ، بل يكون معصية موبقة لصاحبها ، فإما كفرٌ ، وهو : الشرك الأكبر ، وإما رياء ، وهو : الشركُ الأصغر ... هذا إذا كان الباعثُ على تلك العبادة الغرضَ الدنيوي وحده ، بحيث لو فُقِد ذلك الغرضُ لتُرِك العمل ". انتهى من "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (12/50) .
الثانية : أن يبتغي بعمله وجه الله ، ويقصد مع ذلك تحصيل الحظوظ والفوائد الدنيوية المباحة التي تترتب على العمل .
كمن صام لله ، وقصد مع ذلك حفظ صحته ، وحج لله ونوى مع ذلك التجارة ، وجاهد في سبيل الله وقصد الحصول على الغنائم ، وزكى لله قاصداً البركة ونماء ماله ، وتصدق لله ونوى مع ذلك الشفاء من المرض ، ووصل رحمه ابتغاء الأجر وطول العمر وسعة الرزق .
ففي هذه الحال يختلف الحكم بحسب " قوة الباعث " على العمل:
١- فإن كان الباعث الأقوى هو وجه الله وابتغاء الأجر من الله ، فلا بأس .
قال الطاهر بن عاشور : " فَأَمَّا إِنْ كَانَ لِلنَّفْسِ حَظٌّ عَاجِلٌ ، وَكَانَ حَاصِلًا تَبَعًا لِلْعِبَادَةِ ، وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ ، فَهُوَ مُغْتَفَرٌ ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا تَخْلُو عَنْهُ النُّفُوسُ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ ". انتهى من "التحرير والتنوير" (23/ 318).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي : " قَصْد العامل ما يترتب على عمله من ثواب الدنيا لا يضره إذا كان القصد من العمل وجه الله والدار الآخرة .
فإن الله بحكمته ورحمته رتب الثواب العاجل والآجل ، ووعد بذلك العاملين ؛ لأن الأمل واستثمار ذلك ينشط العاملين ، ويبعث هممهم على الخير ، كما أن الوعيد على الجرائم ، وذكر عقوباتها مما يخوف الله به عباده ويبعثهم على ترك الذنوب والجرائم.
فالمؤمن الصادق يكون في فعله وتركه مخلصا لله ، مستعينا بما في الأعمال من المرغِّبات المتنوعة على هذا المقصد الأعلى ". انتهى من "بهجة قلوب الأبرار" صـ 273.
وقال الشيخ ابن عثيمين :
" إن كان الأغلب عليه نية التعبد فقد فاته كمال الأجر ، ولكن لا يضره ذلك باقتراف إثم أو وزر لقوله تعالى في الحجاج: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) ". انتهى
٢- وأما إن كان المقصد الدنيوي هو الباعث الأقوى ، فلا ثواب له.
قال الشيخ ابن عثيمين في تتمة كلامه السابق :
" وإن كان الأغلب عليه نية غير التعبد ، فليس له ثواب في الآخرة ، وإنما ثوابه ما حصله في الدنيا، وأخشى أن يأثم بذلك لأنه جعل العبادة التي هي أعلى الغايات وسيلة للدنيا الحقيرة، فهو كمن قال الله فيهم: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) ...
وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ( من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) .
٣- وإن تساوى عنده الأمران ، فلم تغلب نية التعبد ولا نية غير التعبد فمحل نظر، والأقرب: أنه لا ثواب له كمن عمل لله تعالى ولغيره". انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل الشيخ " (1/99) .
ومن حكمة الله تعالى أن جعل للطاعات ثوابا معجّلا هو من بركة هذه الطاعات وذَكَر بعضها لعباده ترغيبا لهم في سلوك طريقها (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) .
وذِكْر هذه الثمرات والفوائد الدنيوية للأعمال الصالحة يجعل النفوس تتطلع إليها وتقصدها .
ومن كرمه تعالى أنه يعطي العاملين - إذا قصدوا وجهه - حسنات في الدارَيْن (فآتٰهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة) .
وليس الذمّ لمن أنشأ العمل لله وقصده الأول ثواب الآخرة وما في الدنيا تبعٌ وفرعٌ ، وإنما الذم لمن لا يريد بعمل الخير إلا ثواب الدنيا أو يغلب عليه ذلك أو يُنشئ العمل من أجله ، وقد قال تعالى : ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )
ومن النصوص الشرعية التي فيها ترغيب بثمرات دنيوية :
قوله تعالى : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ).
وقال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) .
وقال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
وقال صلى الله عليه وسلم : (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الْجَنَّةِ) رواه أحمد وصححه الألباني.
وقال: (السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ ). رواه أحمد (33683) وصححه الألباني.
فالأحكام الشرعية المعللة بفوائدها في الآيات والأحاديث لا تحصى كثرة.
ومن ذلك أيضاً:
* المتابعة بين الحج والعمرة بنية الخلاص من الفقر .
* الاستغفار بنية الحصول على الأموال والبنين .
* قول بعض الأذكار ليحفظه الله من الأذى .
* صلاة الفجر في جماعة ليكون في حفظ الله وكلاءته .
* التيسير على المعسر ، لييسر الله عليه في الدنيا .
* الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للخلاص من الهموم .
* أداء الزكاة ليكثر ماله وينمو .
* الإكثار من العبادة قاصدا حفظ ذريته من بعده
* الاستغفار بنية الشفاء من المرض.
وظاهر هذه النصوص أن للإنسان أن يعمل العمل الصالح قاصداً الحصول على هذا الأثر الدنيوي المترتب عليها ؛ لأن الله لم يجعل هذه الفوائد الدنيوية إلا ترغيباً للناس بها ، بشرط أن يكون قصد وجه الله هو الباعث الأساس له على الطاعة ، وقصده لهذه الثمرات الدنيوية تبعاً وضمناً.
وعلى هذا يحمل فعل بعض السلف:
كما قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: " إِنِّي لَأَزِيدُ فِي صَلَاتِي مِنْ أَجْلِ ابْنِي هَذَا " ، قَالَ هِشَامٌ: رَجَاءَ أَنْ يُحْفَظَ فِيهِ. انتهى من "حلية الأولياء" (4/279).
ويبقى أن من فعل العبادة خالصا وقاصدا أجر الله وثوابه فقط أكمل وأفضل وأكثر أجرا ممن قصد مصلحة في الدنيا ولو تبعا
والخلاصة :
من فعل الطاعات بقصد الثمرات الدنيوية فقط : فليس له عند الله نصيب (يتصدق للشفاء ، تقرأ البقرة للزواج ، يصوم للحمية ، يجاهد للغنيمة ، يحج للتجارة ..) .
وأما من نوى وجه الله والدار الآخرة ، وجعل الفوائد الدنيوية تبعاً وضمناً ، لا أصلاً وأساساً : فلا حرج عليه .
والله أعلم .