السبت 13 يوليو - 7:13
ليلة القدر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:
ففي حياة الأمم والشعوب أحداثٌ خالدة، وأيام مجيدة تحمل في طياتها ما يغرم
القلوب، ويبهم النفوس، ولقد شرفت هذه الأمة بأعظم الأحداث، وأكمل الأيام،
وأتم الليالي.
ومما أنعم به الخالق على هذه الأمة، ليلة وصفها الله بأنها مباركة؛ لكثرة
خيرها وبركتها وفضلها.. إنها ليلة القدر، عظيمة القدر، ولها أعظم الشرف
وأوفى الأجر.
أُنزل القرآن في تلك الليلة، قال الله جل وعلا: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 1،
2]. وقال جل وعلا: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا
كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]. وهذه الليلة هي في شهر رمضان المبارك
ليست في غيره، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
وقد سميت الليلة بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى يقدّر فيها الأرزاق والآجال،
وحوادث العالم كلها، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والناجون والهالكون،
والسعداء والأشقياء، والحاج والداج، والعزيز والذليل، والجدب والقمط، وكل
ما أراده الله تعالى في تلك السنة، ثم يدفع ذلك إلى الملائكة لتتمثله، كما
قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]. وهو
التقدير السنوي، والتقدير الخاص، أما التقدير العام فهو متقدم على خلق
السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما صحت بذلك الأحاديث.
هذا، وقد نوّه الله بشأنها، وأظهر عظمتها، فقال جل وعلا: {وَمَا أَدْرَاكَ
مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}
[القدر: 2، 3]. فمن تُقبِّل منها فيها، صارت عبادته تلك تفضل عبادة ألف
شهر، وذلك ثلاثة وثمانون عامًا وأربعة أشهر، فهذا ثواب كبير، وأجر عظيم،
على عمل يسير قليل. وفي حديث أبي هريرة أن النبي قال: "من قام ليلة القدر
إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه"[1]. يحييها الإنسان تصديقًا
بوعد الله بالثواب عليه، وطلبًا للأجر، لا لشيء آخر، والعبرة بالاجتهاد
والإخلاص، سواء علم بها أم لم يعلم.
فلتحرصْ -أيها الأخ الكريم- على الصلاة والدعاء في تلك الليلة؛ فإنها ليلة
لا تشبه ليالي الدهر، فخُذْ أيها الإنسان بنصيبك من خيرها الحَسَن، واهجر
لذة النوم وطيب الوَسَن، وجافِ جنبيك عن مضجعك الحَسَن.
وأما وقتها وتحديدها في رمضان، فقد ورد عن النبي أنها ليلة إحدى وعشرين،
وليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وآخر ليلة في
رمضان. قال الشافعي رحمه الله: "كأن هذا عندي -والله أعلم- أن النبي كان
يجيب على نحو ما يُسأل عنه، يُقال له: أنلتمسها في ليلة كذا؟ فيقول:
التمسوها في ليلة كذا".
وقد اختلف العلماء في تحديد ليلة القدر، وذلك على أكثر من أربعين قولاً،
ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهذه الأقوال بعضها مرجوح، وبعضها
شاذ، وبعضها باطل.
والصحيح في هذا أنها أوتار العشر الأواخر في رمضان: ليلة إحدى وعشرين،
وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، كما في حديث عائشة
-رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله يجاوز في العشر الأواخر من رمضان،
ويقول: التمسوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان"[2].
ومتى ضَعُفَ الإنسان أو عجز أو تكاسل، فليتحرها في أوتار السبع البواقي:
ليلة خمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، كما في حديث عبد الله بن عمر
-رضي الله عنهما- أن النبي قال: "التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضَعُف
أحدكم أو عجز، فلا يُغلبَنَّ على السبع البواقي"[3]. وبهذا التفصيل تأتلف
الأحاديث ولا تختلف، وتتفق ولا تفترق، والأقرب إلى الدليل أن ليلة القدر
تنتقل، وليست ثابتة في ليلة محدّدة من كل عام، بل مرةً تكون ليلة إحدى
وعشرين، ومرة تكون ثلاث وعشرين، ومرة تكون خمس وعشرين، ومرة تكون سبع
وعشرين، ومرة تكون تسع وعشرين، فهي بهذا مجهولة لا معلومة، وقد أخفى الشارع
الحكيم وقتها؛ لئلاّ يتكل العباد على هذه الليلة، ويَدَعوا العمل والعبادة
في سائر ليالي شهر رمضان، وبذلك يحصل الاجتهاد في ليالي الشهر حتى يدركها
الإنسان.
والصواب أنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه، فليس من اللازم أنّ من
وُفِّق لها لا يحصل له الأجر حتى يرى كل شيء ساجدًا، أو يرى نورًا، أو يسمع
سلامًا، أو هاتفًا من الملائكة، وليس بصحيح أن ليلة القدر لا ينالها إلا
من رأى الخوارق، بل فضل الله واسع. وليس بصحيح أيضًا أنّ من لم ير علامة
ليلة القدر، فإنه لا يدركها، ولا موفَّق لها؛ فالنبي لم يحصر العلامة، ولم
ينفِ الكرامة. قال ابن تيمية: "وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام أو
اليقظة، فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له: هذه ليلة القدر، وقد يفتح على
قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر"[4].
وقال النووي: "فإنها تُرى وقد حققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة
في رمضان، كما تظاهرت عليه هذه الأحاديث، وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها
أكثر من أن تحصر. وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة: لا يمكن
رؤيتها حقيقة؛ فغلط فاحش، نبّهتُ عليه؛ لئلاّ يُغتر به"[5].
ونقل الحافظ ابن حجر أن من رأى ليلة القدر، استُحبّ له كتمان ذلك، وألاّ
يخبر بذلك أحدًا، والحكمة في ذلك أنها كرامة، والكرامة ينبغي كتمانها بلا
خلاف.
وليلة القدر ليست خاصة بهذه الأمة، بل هي عامة لهذه الأمة، وللأمم السابقة
كلها، وفي حديث أبي ذر أنه قال: يا رسول الله، هل تكون ليلة القدر مع
الأنبياء، فإذا ماتوا رُفِعت؟ قال عليه الصلاة والسلام: "بل هي إلى يوم
القيامة"[6].
ومن العلامات التي تُعرف بها ليلة القدر، ما جاء في حديث أبي بن كعب أن
النبي قال: "تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها"[7].
والمقصود أنه "لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها
بما تنزل به، سترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها"[8].
وأما غير ذلك من العلامات، فلا يثبت فيها حديث، ككونها ليلة ساكنة، لا حارة
ولا باردة، ولا يُرى فيها بنجم، ولا يحل للشيطان أن يخرج مع الشمس يومئذ.
وهناك علامات لا أصل لها، وليست بصحيحة، كالأشجار تسجد على الأرض ثم تعود
إلى مكانها، وأن المياه المالحة تصبح في ليلة القدر حُلوة، وأن الكلاب لا
تنبح فيها، وأن الأنوار تكون في كل مكان.
إن ليلة القدر ليست للمصلين فقط، بل هي للنفساء والحائض، والمسافر والمقيم،
وقد قال الضحاك: "لهم في ليلة القدر نصيب، كلُّ من تقبل الله عمله، سيعطيه
نصيبه من ليلة القدر".
وينبغي للإنسان أن يشغل عامة وقته بالدعاء والصلاة، قال الشافعي: "استحب أن
يكون اجتهاده في نهارها، كاجتهاده في ليلها". وقال سفيان الثوري: "الدعاء
في الليلة أحب إليَّ من الصلاة". فالدعاء في ليلة القدر كان مشهورًا
ومعروفًا عند الصحابة، فلتحرص -أيها الأخ الكريم، والأخت الكريمة- على
تخيُّر جوامع الدعاء الواردة في الكتاب العزيز، والتي كان يدعو بها النبي ،
أو أرشد إليها. ولنعلم جميعًا أنه ليس لليلة القدر دعاء مخصوص لا يُدعى
إلا به، بل يدعو المسلم بما يناسب حاله. ومن أحسن ما يدعو به الإنسان في
هذه الليلة المباركة، ما أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة عن عائشة -رضي
الله عنها- قالت: "لو علمتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القدر، لكان أكثر دعائي فيها
أن أسأل الله العفو والعافية". وهكذا يحرص كل مسلم أن يدعو بالأدعية
الجامعة من دعوات النبي الواردة عنه في مقامات كثيرة، وأحوال خاصة وعامة.
قال النووي: "ويُستحبُّ أن يُكثر فيها من الدعوات بمهمات المسلمين، فهذا
شعار الصالحين، وعباد الله العارفين"[9]. وهكذا أيها المسلمون، فلكم إخوان
وأخوات مستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، ولكم إخوان وأخوات نذروا أنفسهم
لإعلاء كلمة الله في الأرض، فلا تبخلوا عليهم بدعوة صادقة.
اللهم يا من خلق الإنسان وبَنَاه، واللسانَ وأجراه، يا من لا يخيب من دعاه،
هب لكلٍّ منا ما رجاه، وبلّغه من الدارين مُناه. اللهم اغفر لنا جميع
الزلات، واستر علينا كل الخطيئات، وسامحنا يوم السؤال والمناقشات، وانفعنا
وجميع المسلمين بما أنزلته من الكتاب، يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين[10].
[1]خرّجه البخاري ومسلم.
[2]خرّجه البخاري ومسلم.
[3]خرّجه البخاري ومسلم.
[4]ابن تيمية: مجموع الفتاوى 25/286.
[5]شرح النووي على مسلم 8/314.
[6]خرّجه أحمد وغيره، وهو صحيح.
[7]خرجه مسلم.
[8]شرح النووي على مسلم 6/289.
[9]النووي: الأذكار ص247.